بدا يوم 31 ديسمبر عام 2006 يوما عاديا ، صحيح أنه كان يوافق أول أيام عيد الأضحى ألا أننى لا أذكر أنه كانت هناك مؤشرات على أن شيئا ما سيحدث ، و لكن فجأة رأيت على شاشة التلفاز خبرا عاجلا عن إعدام الرئيس العراقى السابق صدام حسين فى مقر الشعبة الخامسة فى منطقة الكاظمية و هو بالمناسبة ( و المفارقة أيضا") نفس المكان الذي اعدم فيه صدام الكثير من السياسيين العراقيين المناوئين له.
أصارحكم القول أننى قابلت الخبر ببرود و لم أشعر بأى مشاعر خاصة ، لقد بدت الأمور و كأنها النهاية الطبيعية لطاغية قتل من أبناء شعبه أكثر بكثير ممن قتل من أعداءه ، صحيح أننى كنت أتمنى أن تكون نهاية صدام على أيدى العراقيين أنفسهم و ليس عن طريق أحتلال أجنبى إلا أن هذا الأمر لم يزعجنى كثيرا" ، لو أن أثنين من البلطجية تعاركا و قتل أحدهما الأخر فبالتأكيد لن أحزن على القتيل.. فعلى الأقل تخلصنا من أحدهما..
و لكن الغريب أنه بمجرد الأعلان عن أعدام صدام أنتابت الكثيرين مشاعر الحزن و الأسى و أخذ البعض ينعى بطل المقاومة و الكفاح ضد المحتل و تناسى الجميع فى ثوانى ما أجرمه فى حق شعبه بدأ من أستباحة مقدراته و حرياته و انتهاء بقذف قرى كاملة بأسلحة الدمار الشامل مما حدا العراقيين أن يطلقوا على معاونه الذى نفذ هذه العملية أسما" شاعريا" خلابا" هو : " على الكيماوى"..
حقيقة لم أفهم هذا التعاطف الذى حول سفاح مثل صدام الى مجاهد برغم كل جرائمة و حماقاته التى دفع ثمنها الكثيرون و لا يزال العراقيين يسددون فاتورتها الى الأن..
نفس الشىء يحدث الأن مع مجرم أخر يدعى أسامة بن لادن..
*************
عندما نتحدث عن بن لادن يجب أن نتذكر حقيقة مزعجة و لكنها هامة : لقد تسبب الرجل فى مقتل ألاف المدنيين العزل الأبرياء، و لا حاجة لى كى أذكركم أنه من غير المقبول لا دينيا ولا إنسانيا" و لا أخلاقيا" قتل إنسان واحد ظلما" .. فلماذا إذا ينصب البعض من قتل الألاف بطلا" بينما يرفضون تماما" قتل إنسان واحد برىء؟
يتحدث الكاتب العظيم جورج أورويل عن هذا التناقض فى رائعته 1984 بل و يطلق عليه أسما عبقريا" هو " التفكير المزدوج" Double Thinking و هو يعنى الإقتناع بالشىء و نقيضه فى ذات الوقت ، بالطبع كان أورويل يتحدث فى روايته عن تلاعب النظم الشمولية بعقول شعوبها مما يسهل لها تنفيذ مخططاتها دون عوائق ، و لكن يبدو أن عقود الأستبداد و القهر جعلت المواطن العربى يقوم بهذه المهمة بنفسه دون الحاجة الى توجيه من أحد..
و لتبرير هذا التناقض يسارع المرء الى منطقة (بفتح الطأ) الأحداث ، فمثلا فى حالة صدام أكد البعض أنه قد تاب الى الله فى أعوامه الأخيرة و أنه كان يريد أصلاح ما أفسده ( برغم أنه لا يوجد دليل حقيقى على ذلك ناهيك عن أننا لم نسمع طوال التاريخ البشرى عن ديكتاتور هداه الله و صار حاكما صالحا") ، و البعض قال أنه كان يسعى لتحرير القدس ( و التى لم يدخل فى حرب واحدة مع إسرئيل من أجل تحريرها برغم حروبه الكثيرة و المتكررة) و البعض سائه فقط تنفيذ حكم الأعدام يوم العيد و رأى فيه إستفزازا" لمشاعر المسلمين و إن كنت شخصيا" أظن أن قوات الأحتلال تعمدت ذلك ظنا" منها أن أعدام شخص مثل صدام يعتبر خبرا سعيدا للمقهورين اللذين عاصروه و يعد بمثابة هدية لطيفة لهم يوم العيد..
و لكن فى نهاية المطاف و بنظرة منطقية و حيادية للأمور تجد أن كل هذه المبررات الواهية لا تعتبر عذرا لقمع ملايين البشر و ذبح الألاف بدم بارد ، و فى نهاية المطاف تحققت العدالة و نال المجرم ما يستحقه..
لقد ذهب صدام الى الأبد و صار العالم أفضل قليلا"..
و لكن فى حالة بن لادن كانت التبريرات أكثر تعقيدا" ، و إن بدا بعضها عسيرا على الإستيعاب ، فقد ذهب البعض إالى أن بن لادن قد " أجتهد فأخطاء" ،هذا المنطق يمثل قمة الأستهانة بالحياة الإنسانية و يتحدث أصحابه و كأن بن لادن قد قام بكسر أشارة مرور مثلا" و ليس قتل ألاف المدنيين الأبرياء فى مختلف دول العالم (بما فى ذلك السعودية بلده) ، البعض الأخر يدعو الى تذكر جهاد بن لادن ضد الأتحاد السوفيتى أبان أحتلاله لأفغانستان و هو منطق لا يختلف كثيرا عمن يدعون الى عدم محاكمة مبارك لأنه شارك فى حرب أكتوبر ناسين أن العدالة لا تتجزاء و أن الأعمال الجيدة التى فعلتها فى الماضى لا تبرر الجرائم التى ترتكبها فى الحاضر أو المستقبل.
فريق أخر ذهب الى أن ما فعله بن لادن هو رد فعل على الجرائم التى أرتكبها الغرب بصفة عامة و أميريكا بصفة خاصة ضد الأسلام و المسلمين و أن قتل المدنيين فى الدول الغربية هو نتيجة لسياسات الدول الغربية التى تسببت بشكل أو بأخر فى قتل المدنيين المسلمين و هنا نكتشف أن بن لادن لا يختلف كثيرا" عن جورج بوش و نتينياهو ، و يصبحون جميعا" مجرد أوجه مختلفة لعملة واحدة، فكلهم لا يمانع فى القتل و سفك الدماء دون تمييز للوصول الى أهدافهم دون أى مانع أخلاقى أو أنسانى ، الفارق هنا فى الأمكانيات التى يملكها كل طرف لا أكثر..
الفريق الأخير ذهب الى أن بن لادن مجاهد يقتل الكفار لنشر الأسلام ، و هو من وجهة نظرى أكثر التبريرات إثارة للإشمئزاز ، و هو ما يجعل صدام (على دموية) أفضل من بن لادن بمراحل ، فعلى الأقل كان صدام يقتل ليثبت أركان حكمه و لم يدعى أنه يفعل ذلك لخدمة الدين ، لقد أعطى بن لادن لنفسه الحق قى أن يقرر من يستحق الحياة و من يستحق الموت و نصب نفسه متحدثا" وحيدا بأسم الأسلام عن طريق الدم و استغل واحد من أكثر الأديان سماحة و رحمة لتبرير مجموعة من أبشع الجرائم ضد الأنسانية لهذا ليس غريبا أن يتحالف مع مجرم أخر هو أيمن الظواهرى و هو – لمن لا يذكر – سفاح يمتلك سيرة ذاتية رائعة تتضمن قتل مواطنين مصريين فى القاهرة (من بينهم أطفال دون سن العاشرة) و هم ينتظرون الحافلة فى محطة الأتوبيس على يد تنظيمه فى التسعينات من القرن الماضى..
إن تصوير قتل المدنيين الأبرياء العزل و كأنه جهاد فى سبيل الله يعبر عن قمة الأستهانة بالحياة الإنسانية و قمة الإستخفاف و الجهل بهذا الدين الذى لا يقبل - تحت أى ظرف من الظروف و أيا كانت الأسباب – أن يقتل إنسان ظلما" أو يعتدى على أبرياء بأسمه أو حتى مجرد أن يروع أمنون بسببه..
و لهذا ليس غريبا" أن يواجه هذا الفكر الدموى تراجعا" فى السنوات الأخيرة أنتهت بتلقى هزيمة فكرية قاسية على يد مجموعة مسالمة من الشباب الرائع فى مصر و تونس و سوريا و اليمن، فقد أستطاع هذا الشباب النقى (اللذى قدم شهداء و لكن لم تتلوث يده بدم) أن يحقق فى أيام ما فشلت القاعدة و أشباهها فى تحقيقه عبر عقود من العنف و الترهيب ، كما أنه ليس من الغريب أن نرى صور جيفارا ( اللذى حارب قوات الجنرال باتيستا و لكن لم تتلوث يده بدماء مدنيين عزل) فى ميدان التحرير بينما خلا الميدان تماما" من أية صورة لبن لادن أو أتباعه..
أصارحكم القول أننى (و على عكس عدم مبالاتى السابقة بإعدام صدام) شعرت بالراحة لمقتل بن لادن ، صحيح أننى كنت أتمنى لو أنه قدم للعدالة بدلا" من تصفيته بهذا الشكل لأننى اؤمن بحق كل إنسان فى محاكمة عادلة مهما كانت جرائمه ، إلا ان مقتل بن لادن هو بداية النهاية لفكر قاسى و دموى و رجعى أستمر لسنوات طويلة و أساء للأسلام و للمسلمين أكثر من أى شخص أخر..
لقد ذهب أسامة بن لادن الى الأبد و صار العالم أفضل قليلا"...
كلمة أخيرة:
" إن الوصية الخامسة من الوصايا العشر تقول : "لا تقتل" و لكن حين تفكر بالأمر لا تجد المتدينين متحمسين للغاية لتطبيق هذه القاعدة ، إن عدد اللذين قتلوا بسبب الدين أكثر من اللذين قتلوا لأى سبب أخر ، فقط أنظر الى أيرلندا الشمالية ، الشرق الأوسط ، كشمير ، محاكم التفتيش، الحروب الصليبية و مركز التجارة العالمى لتدرك مدى الجدية التى يتعامل بها المتدينون مع موضوع عدم القتل .. يبدو أنه كلما أزداد المرء إيمانا" كلما صار موضوع القتل قابلا" للتفاوض.."
جورج كارلن - 2001
هناك ٤ تعليقات:
ذهب بن لادن الي حيث ألقت، و أشاركك السعاده برحيله و تحسن العالم قليلا، ايضا يسعدني انني كنت من ابلغك بهذا الخبر السعيد ، مقتل بن لادن
عود حميد يا هاشم
و ارجو انك تنشر التدوينة دى على مجموعة بنحب مصر فى الفيس بوك
اعتقد ان العالم لن يكون احسن بعد بن لادن لان من خلق بن لادن بشكله و هيئته اكثر دموية منه و قادر على ازكاء روح العداء و استغلال القاعده بعد بن لادن ايضا كفزاعة يستطيع بها ارهاب العالم و لن نستطيع ان نثبت ان كانوا هم الارهابيون فقط ( القاعده) ام من وراء خلق هذا التنظيم اصلا و غيرهم
لا اعتقد يا هاشم ان الحدث الاساسي ليس هو رحيل بن لادن او استشهاده او زواله من العالم .....فكما اعتدنا من الاداره الامريكيه بان الحدث يكون متعدد الجوانب والاغراض ....فما بين رفع شعبيه الرئيس الحالي ومحاوله زياده رصيده عن الشعب.... الي توجييه... رساله الي العالم بان لا ننسي في خضم ثورات الشعوب العربيه المتحضره بانهم اصل الارهاب وسبب مشاكل العالم...... وبين ايجاد شبح جديد لبث الرعب وعدم الاستقرار في المنطقه الا وهو انتقام القاعده لمقتل بن لادن
ممكن الافادة بالسيرة الذاتية لجورج كارلن
إرسال تعليق