الاثنين، أبريل ١١، ٢٠١١

اليد الخفية و تراجيديا القواسم المشتركة

فى حياتنا اليومية الكثير من التساؤلات اللتى تبدو منطقية و بديهية و مع ذلك يصعب العثور على إجابة واضحة لها. أسئلة من نوعية:

- لماذا حين تفتح باب الثلاجة يضىء النور بداخلها بينما لا يحدث نفس الشىء عندما تفتح باب الفريزر؟

- لماذا تكون صور الأفراد على العملات المعدنية صورا" جانبية دائما" بينما على العملات الورقية هى صور أمامية كاملة الملامح؟

- لماذا كان الطيارين الإنتحاريين اليابانيين (الكاميكازى) دائما" يرتدون خوذات لحماية الرأس قبل ذهابهم الى عملياتهم الإنتحارية؟

- لماذا يصر الحكام العرب على أن يحمل أحدهم لقب "المخلوع" أو "المقتول" أو "المنفى" بدلا" من أن يعيش فى بلده معززا مكرما كرئيس سابق فى إطار عملية ديموقراطية ؟

إن مثل هذه الأسئلة دائما ما تثير الفضول و التأمل و أصارحكم القول أننى أشعر بنوع من الراحة حين أجد إجابة مقنعة لأحدهم ، فمثلا" السبب فى عدم وجود ضوء للفريزر يعود الى مبدأ التكلفة مقابل الفائدة ، إذ أن تكلفة وضع ضوء فى كل من الثلاجة و الفريزر واحدة بينما الحاجة الى الضوء فى الثلاجة أكبر بكثير منها الى الضوء فى الفريزر و لذلك لا يرغب كثير من الناس فى زيادة سعر الثلاجة لتغطية تلك التكلفة الإضافية ، بينما الصور الجانبية فى العملات المعدنية تكفى لتعريفك بشخصية صاحب الصورة دون الدخول فى التعقيدات الفنية التى يتطلبها نحت تفاصيل وجه كامل على قطعة معدنية صغيرة بينما تحتاج الى هذه التفاصيل المعقدة على العملة الورقية لتصعب عملية التزييف ، و بالنسبة للكاميكازى فإن الهدف من عملياتهم العسكرية لم يكن الإنتحار فى حد ذاته و لكن " تدمير الهدف بأى طريقة ممكنة" و بالتالى كان وضع الخوذة على الرأس أملا" فى نجاح المهمة و عودة الطيارين بسلام دون الحاجة الى تفجير أنفسهم...

أما بالنسبة للحكام العرب فسأترك الإجابة على هذا السؤال للفلاسفة...

******************************

و لكن السؤال اللذى يؤرقنى حقا" فيما يتعلق بالحكام العرب هو :" لماذا كل هذا ؟ " ، و لكى تفهم ما أعنيه يكفى أن تلقى نظرة بسيطة على التقديرات المبدئية لثروات كبار المسؤلين فى مصر و التى تتراوح بين 40 الى 70 مليار دولار لعائلة الرئيس السابق ( و لا أريد التحدث هنا عن رسالة مبارك الصوتية أوما نشرته واشنطون بوست عن إستيلاء ولده جمال على 75 طن من الذهب المصرى الموجود فى المجلس الفيدرالى الإحتياطى الأميريكى فضغط الدم مرتفع عندى بما فيه الكفاية هذه الأيام ) بينما ثروة أحمد عز تقدر بثلاثة مليارات دولار و ثروتى كلا" من رشيد و جرانة حوالى مليارين من الدولارات لكل منهما ، و لكى تدرك حجم هذه الثروة يكفى أن تعرف أن ثروة سلطان عمان تقدر ب 670 مليون دولار بينما تقدر ثروة أمير الكويت ب 386 مليون دولار فقط ،و لكى تستوعب الموضوع أكثر يكفى أن أقول لك أن الفوائد البنكية لوديعة تبلغ قيمتها 600 مليون دولار تسمح لك بصرف مليون جنيه يوميا" دون أن ينقص هذا من الوديعة الأصلية مليما".. السؤال بصيغة أخرى : ما اللذى تريد أن تفعله ب 40 مليار دولار و لا تستطيع أن تفعله بمليار واحد ؟

تساؤل أخر : ماذا كان سيحدث لو كان هؤلاء اللصوص قد أكتفوا بسرقة ربع ما سرقوه و تركوا الباقى للتنمية الداخلية و تحقيق العدالة الإجتماعية ؟ وقتها كان سيظهر شىء أشبه بالنموذج الصينى فى التعامل مع الأمور ، فلعقود طويلة أستطاعت الصين (و لازالت) مقاومة الضغوط الغربية و مطالبات المجتمع الدولى الداعية الى أحترام حقوق الإنسان و حرية التعبير عن طريق عقد مقارنة بسيطة بينها و بين جارتها اللدود : الهند ، فكلا الدولتين كانتا تعانيان من مشاكل متشابهة فى الستينيات ، فعدد السكان فى الدولتين مهول مع معدلات فقر عالية تصل الى أكثر من 60% مما كان ينذر بكارثة حقيقية ، و لكن بالرغم من إنتهاج الهند للطريق الديموقراطى لتصبح أكبر دولة ديموقرطية فى العالم من حيث عدد السكان إلا أن معدلات الفقر لازالت مرتفعة و تصل الى أكثر من 40% بينما فى نفس الفترة نجحت الصين برغم سياساتها القمعية فى تخفيض معدلات الفقر الى أقل من 18%. أى أن الدولة الصينية نجحت حرفيا" فى أنقاذ مئات الملايين من مواطنيها من الفقر. أعلم أن هذه الحجه لا تكفى لتبرير انتهاك حقوق الإنسان و مصادرة الحريات و لكن على الأقل تستطيع الحكومة الصينية أن تدعى أن سياستها القمعية قد أفادت الشعب الصينى بشكل أو بأخر، فماذا كان يقول المسؤلون المصريون لتبرير سؤاتهم؟ الكثير من الهراء حول عدم جاهزية الشعب المصرى للديموقرطية مع تربص القوى المتطرفة للقفز على الحكم، و لا أعتقد أن هذا الكلام كان رد فعل يائس على إنتقادات الثورة و لكنه كان ما يتردد لسنوات طويلة فى الغرف المغلقة و ظهر على السطح مع تكاثر السهام فى أيام النظام الأخيرة.

السؤال بصيغة ثالثة : ما اللذى منع النظام المصرى فى إتباع النموذج الصينى مع مراعاة نصيب معقول للكبار من الكعكة لا يؤدى الى إفسادها بالكامل؟ لماذا فضل البعض مصالحهم المحدودة الضيقة على مصلحة الغالبية حتى لو أدى ذلك الى ضياع مصالح الجميع ؟

علماء الإقتصاد يسمون هذه الظاهرة " تراجيديا القواسم المشتركة" أو "Tragedy of the Commons" ، و هى معضلة تنشأ عندما يتصرف كل فرد ضمن مجموعة من الأشخاص بشكل مستقل لتحقيق مصالح خاصة مما يؤدى الى إستنزاف الموارد المشتركة حتى لو كان واضحا" للجميع أن هذا ليس فى مصلحة أحد على المدى البعيد و أنه سيسبب ضررا" عاما للكل بلا تفرقة، على سبيل المثال يريد الجميع الذهاب مبكرا" الى العمل ، لذا يفضل كل فرد الذهاب بسيارته الخاصة بدلا من الأتوبيس لأن ذلك أسرع بسبب توقف الأتوبيس المتكرر فى المحطات، المشكلة هنا أن كثرة السيارات الخاصة ستؤدى الى أزدحام الطرق و الى تأخير الوصول الى العمل فى حين أنه لو أن معظم الناس أستخدموا الأتوبيسات العامة فإنهم سيصلون الى أعمالهم أسرع برغم وقوف الأتوبيس المتكرر بسبب فراغ الطرقات. لذا كما ترون فاءن تراجيديا القواسم المشتركة هى أمر متكرر فى حياتنا اليومية و لم تكن عصابة الحزب الوطنى أستثناءا" من القاعدة.

و لكن لحسن الحظ أن تراجيديا القواسم المشتركة لا تعمل وحدها ، فهناك دائما شىء ما يحدث ليبدل الأمور و يغير مجرى الأحداث و هنا يظهر مصطلح أقتصادى أخر شديد الشهرة هو ما يطلق عليه " اليد الخفية " أو “ The Invisible Hand” و هو تعبير صاغه أدم سميث فى كتابه الأقل شهرة " نظرية المشاعر الأخلاقية " أو “The Theory of Moral Sentiments” و اللذى يجادل فيه بأن تصرفات الأشخاص الفردية الساعية لتحقيق مصالح شخصية بحتة سيتم دائما توجيها عن طريق " يد خفية " لتصل الى نتائج لم تكن ضمن خططهم الأولية ، على سبيل المثال فإن محاولة تحقيق أكبر قدر من الربح تعنى زيادة الأسعار و لكن بسبب رغبة كل تاجر على حدة فى تحقيق أكبر نسبة مبيعات فإن هذا سيؤدى إلى إنخفاض الأسعار برغم سعى كل تاجر الحثيث الى تحقيق أكبر ربح ممكن ، بالطبع كان أدم سميث يتحدث هنا عن القوى المسيطرة على السوق و كأنه يريد أن يقول أن العدالة ستفرض نفسها بشكل أو بأخر و هو كلام يبدوا غريبا" و شاعريا" حين يصدر من مؤسس الرأسمالية و لكنه واقع نراه كثيرا" فى حياتنا اليومية و الأهم أنه يفسر لنا لماذا كانت تصرفات الحزب الوطنى فى الأشهر الأخيرة فى غاية الحماقة و تدفعه الى نهايته دفعا" برغم تحذيرات الكثيرين ، بإختصار لقد كانت العدالة تحقق نفسها.

أصارحكم القول أننى شعرت بنوع من السعادة حين توصلت الى النتيجة العبقرية المتواضعة السابقة ، فهى تقدم أجابة منطقية و متماسكة ذات طابع أكاديمى مليىء بالمصطلحات الكبيرة لأسئلة تبدو ( على بديهيتها) عسيرة الإجابة ، كما أنها تعد دليلا" على أننى لم أزداد غباءا" فى السنوات الماضية ، إلا أن ثقتى بنفسى تبددت بعد أن تحدثت مع أحد الأصدقاء حول هذا الموضوع ، فقد كان طرحة للموضوع أكثر بساطة حين قال لى أن السبب الوحيد فى أستشراء الفساد و عدم مراعاة أى حدود للظلم أو القهر هو أن النظام السابق ظن أن هذه هى وظيفته ، فعلى سبيل التوضيح خذ مثلا" شخصا" مثل بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت ، لا يمكن لك أن تتصور أن يطالبه الموظفون بالشركة بالتوقف عن العمل بحجة أنه أصبح يملك الكثير من المال أو أنه صنع ما يكفى من البرامج ، ولكنه سيستمر فى صناعة البرامج و جمع المال لأن هذه هى وظيفته ، إن هذا هو " ما يفعله" ، بنفس المنطق لا يمكن أن تطالب نظام فاسد تصور أنه يدير شركة خاصة و ليس دولة بحجم مصر أن يكتفى بما سرقه مهما كبر حجمه لأن ذلك – ببساطة - هو "ما يفعله".

إلا أن هذا الطرح رغم وجاهته بدا لى غير كاف ، بالتأكيد هناك سبب كبير و معقد لتفسير ما حدث ، أجد صعوبة فى تصديق أن غرقى العبارة و حرقى القطارات و أهالى الدويقة قد ماتوا جميعا" فقط لأن البعض أعتاد ما يفعله، هل أستشهد خالد سعيد و سيد بلال و غيرهم مئات و ربما ألوف فى المعتقلات لأنها صارت هواية عند البعض؟ هل إنهار التعليم و تدهورت الزراعة و نهبت الدولة لأن البعض ظن أن هذا هو ما ينبغى فعله ؟ هل أوشك كل شىء على الضياع لمجرد أن شخص واحد فقط فاسد؟

هل الأمور حقا" بهذه البساطة؟

أعتقد أننى سأترك الإجابة على هذا السؤال أيضا" للفلاسفة.

كلمة أخيرة:

قالوا له : العالم كله ضدك.

أجابهم : و أنا أيضا" ضد العالم..!!

جملة سمعتها منذ زمن و لكن يبدو أن الكثيرين فى العالم العربى يرددونها الأن

ليست هناك تعليقات: