لقد صار المشهد معاداً.. ليس الى درجة تثير الدهشة و لكن الى درجة تثير الملل.. لقد رأيت هؤلاء البؤساء من قبل.. رأيتهم أثناء غرق العبارة و أثناء احتراق المسرح بل و أثناء اشتعال القطار الأول... لم تعد وجوههم الذاهلة و ملابسهم الممزقة و أشلائهم الطائرة تبدو غريبة و هم يقفون مشدوهين بين حطام القطارين.. ترى هل توقعوا أن يصلوا فعلاً الى منازلهم؟ هل ظنوا انهم يمكنهم ركوب القطار بأمان و دون خوف على حياتهم؟ لقد تغيرت قواعد اللعبة منذ زمن و صار موتك فى حادث قطار أو عبارة أو طائرة مجرد مسألة وقت لا أكثر... هل تخيلوا أنهم يمكنهم النجاة؟ هل ظنوا حقاً أن هناك من يهتم؟..
منذ سنوات قليلة فى الصعيد حدث مشهد مماثل ، و شاهد الناس قطاراً هو عبارة عن كتلة متحركة من النيران بينما ركابه يتم شوائهم أحياء.. هنا تصايح الجميع و قالوا ان المتسبب فى الحادث راكب أخرق ابى الا أن يستخدم وابور الغاز لعمل كوب من الشاى داخل القطار و فى اليوم الثانى نشرت الأهرام صورة عجيبة لوابور غاز (سليم تماماً) وسط ركام القطار و تحتها تعليق عبقرى يقول " وابور الغاز اللذى تسبب فى اشتعال القطار".. كاننا بهذه السذاجه.. ترى ماذا سيقال اليوم؟ بالتأكيد سيجدون مسكينا" ما يصلح ككبش فدأ ، عندئذ سيحملونه مسؤلية اصطدام القطارين و مصرع الركاب و من يدرى ؟ ربما يصلح أيضا" ليكون سبب انفلوانزا الطيور و الحرب الباردة.. و بمرور الوقت سينسى الجميع كل شىء و سيقتصر الحديث عن التعويضات اللتى ستدفعها الحكومة للضحايا ، كأن الأمور بهذه البساطة..
و لكن يبدو أن السيناريو سيتم تسريعه هذه المرة ، ففى خلال دقائق من الحادث أعلنت الحكومة انها ستصرف عشرة الاف جنيه كتعويض للمتوفى و خمسة الاف جنيه للمصاب.. ترى، هل هذا هو سعر الإنسان هذه الأيام ؟ هل ترضى عزيزى القارىء أن تبيع ساقك أو ذراعك بخمسة الاف جنيه؟ هل يكفى ورثتك عشرة الاف جنيه يتسلمونها فور مقتلك؟ لم لا ؟ لقد مات فى غرق العبارة حوالى 1400 مصرى (أكثر من عدد اللذين ماتوا فى الحرب الأخيرة بين اسرائيل و حزب الله) و مع ذلك خرج علينا من يقول انه لا داعى للإنزعاج لأن صاحب الشركة الكريم سيقوم بدفع التعويضات اللازمة ( كأن الأمور أيضا" بهذه البساطة) ، ما اللذى يمنع؟ فهؤلاء اللذين ماتوا ليس لهم أهمية كبيرة على اية حال.. لا يوجد منهم من يستطيع الغناء أو التمثيل أو حتى قذف كرة بين ثلاث خشبات ، هم مجرد عمال أو مهنيين يوجد منهم الكثير .. ربما لو كانت احدى راكبات القطار قد اهتمت بتعرية جسدها أو القيام بهز وسطها لوجدت من يقلها بسيارته الفارهة بدلاً من عناء القطارات.. ربما لو كانت ذهبت لما هو أبعد لوجدت من يعطيها سيارتها الخاصة.. انها غلطتهم اذاً برغم كل شىء..
يقولون أن عدد القتلى المبدئى يصل الى حوالى خمسون شخصاً ، يبدو اننا كنا محظوظين هذه المرة.. لقد تجاوز عدد قتلى العبارة الألف و عدد قتلى القطار الأول المئة ..ترى ، ما هو الرقم اللذى يكف الحادث عنده أن يصبح حادثاً و يتحول الى مأساة ؟ هل هو مئة ؟.. مئتين؟.. ألف؟ هل تذكرون رواية ماريماك القاتمة " كل شىء هادىء على الجانب الغربى" ؟ تلك اللتى تتحدث عن صبى ألمانى وجد نفسه مجندا ليحارب فى الحرب العالمية الأولى.. لقد كان لهذا الفتى طموحات و أمال و أحلام .. كانت له حياة .. و حين مات لم يهتم به أحد ، و بعثت سريته تقريرا" مقتضبا" للقيادة يقول : " قتل اليوم جندى واحد فقط .. كل شىء هادىء على الجانب الغربى.." ، ترى ، متى صار كل شىء هادئاً فى مصر؟ متى أصبحت الحياة البشرية بلا قيمة ؟ أو لنقل بعشرة الأف جنيه؟..
الغريب ان يوم الحادثة وافق يوم عيد الإسراء و المعراج تماماً كما وافق حادث القطار الأول يوم العيد.. هل هى صدفة ؟ هل يحاول القدر أن يخبرنا شيئاً ؟ هل هو قضاء و قدر أصلاً ؟ لم لا يكون الموضوع كله هو أننا ندفع فاتورة اخطائنا و أننا – ببساطة- نحصد فقط ما زرعناه ؟ إن الكوارث المتعاقبة تكشف أن حجم الفساد و الإهمال قد صار خرافياً ، ربما الى درجة أننا لا نستطيع مواجهنه و لا التصدى له ، ربما اكتشف بعض أولى الأمر أن ترك الأمور على حالها هى أنسب سياسة و أن أفضل طريقة لحل مشاكل الشعب هى القضاء على الشعب ذاته..
أتعلمون يا أعزائى ما هو أكثر ما يؤلم فى هذا الموضوع ؟ انه الشعور غير الطبيعى بالعجز و قلة الحيلة.. اننى اقف متفرجاً على هذا الحادث مثلما وقفت متفرجا" على حادث العبارة و المسرح و القطار الأول و كما سأقف متفرجاً على الحادث القادم بلا شك .. لأننى ببساطة لا يوجد بيدى ما أفعله .. تماماً كما لا يوجد بأيديكم ما تفعلونه.. كل شىء يحدث رغماً عنى و ضد إرادتى.. بينما يوجد أخرون يعرفون ما يفعلونه جيداً .. لهذا لا تجد مسؤلاً واحداً حقيقياً يتحمل نتيجة تلك الكوارث ، و تجد دائماٌ من يستطيع تأمين نفسه بالشكل المناسب أو حتى الهرب فى الوقت المناسب، هناك من هو ليس على شاكلة ركاب القطار البلهاء اللذين لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم ، هناك من يستطيع النجاة حتى لو حرق بضع مئات من الركاب أو أغرق بضعة ألاف من المسافرين فى عبارته ، فهو سيدفع التعويضات للضحايا على كل حال..
يبدو أن الأمور فعلاً بهذه البساطة..
كلمة أخيرة
I balanced all, brought all to mind..
The years to come seem waste of breath..
A waste of breath the years behind..
In balance with this life…This death..
لقد وزنت كل شىء و فكرت فى كل شىء،
السنوات القادمة تبدو مضيعة للوقت..
و بما أن السنوات السابقة كانت ايضاً تضيعاً للوقت..
إذن هذه الحياة .. تساوى الموت..
المقطع الأخير من قصيدة
“An Irish Airman Foresees His Death”
William Butler Yeats
محمد هاشم
2006-08-22
William Butler Yeats
محمد هاشم
2006-08-22